مقال بعنوان :
أمام سور البقيع.. جوار والدي!
بقلم د. طلال بن عبدالرحمن بن صالح
#الشثري
كنتُ في الحادية عشرة حين صحبني والدي لصلاة العصر في الحرم النبوي قرب الروضة الشريفة، ثم السلام على الرسول -عليه الصلاة والسلام- وصاحبيه -رضي الله عنهما-. خرجنا واتخذ والدي طريقاً مختلفًا. بعد المشي لمسافة، وجدت نفسي معه واقفَيْن أمام سور مقبرة البقيع. ساد صمت مهيب قطعه صوت والدي: "السلام عليكِ يا أمي الغالية".
أتذكره واقفاً بغترته البيضاء، ينظر بصورة ممتدة إلى كل القبور لأنه لم يكن يعرف موقع قبر والدته على وجه التحديد. كان يبحث بعينيه وبقلبه عن أثرٍ ضاع منه في ثنايا الزمن، فقد مرّ على وفاة أمه حينذاك ما يزيد على أربعين عاماً، وكان الخبر بلغ والدي بعد أيام وهو في عمر قريب من خمسة عشرة عاماً، في الرياض، وفيه أن والدته توفيت في حادث سير مع زوجها على طريق المدينة المنورة-تبوك، وصُلّي عليهما، ودُفنا في البقيع، فيما كان والده قد توفي وهو لم يكمل الثلاث سنوات -رحمهم الله-. لم أدرك أنا في تلك السن الصغيرة أن ذلك المشهد أمام سور المقبرة كان يشرح جانباً من قصة صبر ومعاناة وكفاح عبدالرحمن بن صالح الشثري.
ذلك اليتم المبكر لم يورّثه قسوة، بل نحت في روحه إحساساً عميقاً بمن قست عليهم الحياة. ومن رحم تلك المعاناة، وُلد انحيازه الدائم لصاحب الحاجة. وقد رأيتُ هذا المبدأ يتجسّد بأوضح صوره حين حوّل معاناته الطويلة مع المرض إلى رسالة جسّدها واقعاً -بتوفيق الله- ثم بدعم أهل الخير في الوطن عبر السعي في بناء وتجهيز المراكز الخيرية للغسيل الكلوي. ومن معايشته وخبرته، كتب عدة مقالات ومشاركات إعلامية تناولت دعوته لتطوير مفهوم الوقف، وتأسيس جمعية خيرية لمرضى الكلى التي دعمها ورعاها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- حين كان أميراً لمنطقة الرياض.
أتذكر موقف والدي في مطار القاهرة عائدين للرياض، حين لاحظ مسافراً مسناً يقف بجانبه حائراً أمام الإلغاء المفاجئ لحجز سفره. لم يتردد والدي في السعي بنفسه حتى حلّ مشكلته مع خطوط الطيران، دون أن يعرف كلاهما الآخر ودون أن يعرّف بنفسه للآخر بعد ذلك! كان يتمثل المنهج النبوي الشريف "صنائع المعروف تقي مصارع السوء"، و"خير الناس أنفعهم للناس".
أجابني ذات مرة عن طلبي له بأن يوثق مسيرته في كتاب، أقله الجانب الإنساني، وكان ردّه: "رحم الله امرءً عرف قدر نفسه". لعل والدي كان يرى أن قيمة المرء الحقيقية ليست في سيرة تُكتب، بل في أثرٍ يُعاش. وهو أثرٌ رأيته في أمانته في العمل، وصلة الرحم، ورعاية اليتيم، وحسن الجيرة، وفي خيمة الافطار الرمضاني التي كان يتكفل بها ويشرف عليها بنفسه لعدة سنوات، وفي مشاريع الكلى الخيرية في أنحاء المملكة. كما أن أثره تبدّى في محبة الناس له في حياته وبعد وفاته -رحمه الله-.
في سنواته الخمس الأخيرة، أثقلت عليه متاعب الشيخوخة، وخذلان الذاكرة في أحيان كثيرة، وأقعده العجز عن المشي. وكنت في بعض الأوقات أجلس بجانبه، فأُقحم نفسي عمداً -دون وجه حق مني- في رحلته الطويلة، محاولاً استرعاء انتباهه، قائلاً: "يابوي، كافحنا أنا وإياك في هالحياة"، فينظر إليّ، وفي عينيه بريق أحسبه من شريط حياته الطويل، ويجيب بكلمة واحدة تختزل كل شيء: "صح!". كانت تلك الـ "صح!" هي آخر الدروس، إقراراً برحلة كفاح بدأت باليتم ومرّت بالانجازات المهنية والإنسانية وانتهت بالصبر على المقدور.
رحمك الله يا
#عبدالرحمن_بن_صالح_الشثري، ورفع منزلتك، وجمعنا بك وأحبابنا في فسيح جناته. والحمدلله على قضائه وقدره.