مضى عام على دخول والدي المستشفى.
في البداية كنت أترقّب شفاءه وعودته إلى البيت، ثم تعقّدت مشكلاته الصحية فصرت أرجو أن تستقر حالته فحسب، ثم انخفض سقف الأمنيات لأكتفي بأن يتذكرني أثناء زيارتي له، لكن الذاكرة حين تبدأ بالانسحاب لا تتراجع. وبعد أن كنت أستأنس بابتسامته حين أكلّمه، رضيتُ بغيابها في نومه الطويل. والآن لم يعد يشغلني أن يشعر بي، يكفيني أن يظل موجودًا.
الفقد الكامل كضربة سريعة بسكين حاد، أما الفقد المتقطّع يشبه أن تُغرَس تدريجيًّا وببطء في نسيج روحك، تتوقف عند نقطة معينة فتظن أن الأمر انتهى، ثم تعود لتتوغّل عميقًا. انحسار هادئ يتمّ في مراحل، وفي كل مرة تنزف بصمت، لا تستوعب ما يحدث، ولا يلاحظك أحد.
في هذه التجربة اختبرت العديد من المشاعر: الرفض، الإنكار، الغضب، الإحباط، اليأس، الفراغ، والوحدة. ثم هدأت العاصفة، فكان الرضا محطّتي الأولى بعد إدراكي أن التسليم هو المخرج الوحيد من هذا الضيق. أحاول اليوم أن أتعامل مع حزني باتّزان، فأفسح له مساحة ليعبرني دون أن يلتهمني.
أحاول أن أفهم تجربتي هذه، وأن أختبر فيها عمليًّا ما كنت مؤمنة به: مرحليّة العلاقات، حتميّة الفقد، الحياة لا تُدار وفق رغباتنا، والنجاة ليس بالتشبث بكل ما نريده، بل بقبول زواله بوصفه جزءًا من اكتمال المعنى.
أجتهد في ترميم نفسي، وفي الاعتناء بأمي، وأحاول أن أكون أقرب إلى عائلتي وأصدقائي وكل الذين أحبهم. نبّهني وجع المفقود إلى قيمة الموجود، وما دام الفراق مؤكّدًا، فليكن هذا الحضور المؤقّت دافئًا وصادقًا.
الفقد الغامض
Ambiguous Loss
عندما يحدث فقد لا وضوح او اكتمال له…
حيث أنه غير واضح للفاقد إن كان المفقود موجوداً بالفعل أم لا… سواءً كان الوجود الجسدي أو العاطفي أو كلاهما…
كأن يكون الشخص موجوداً في الواقع، لكنه غائب عاطفياً غياباً مؤثراً…
أو أن يكون غائباً في الواقع غياباً مؤثراً، لكنه متواجد عاطفياً…
يحدث مثل هذا الفقد كثيراً في العلاقات… انتهاء صداقة، فقدان القرب، التغيير في المشاعر، انقطاع التواصل، حالات الاختفاء والاختطاف، أو الوحدة المحسوسة في وجود الآخر… بل وحتى في حالات ناتجة عن المرض مثل الألزهايمر مثلاً…
الفقد مع استمرار وجود المفقود مختلف، وقد لا تقل آثاره على الفاقد عن الفقد للموت في بعض الحالات، ولكن أصعب ما فيه هو أن وجود المفقود قد يُبْقي حدة الفقد ويمكنه أن يكون مزمناً، وهو مُعَرّض بشكل دائم لأن يُعاد إحياؤه من جديد وإن بدا لنا أنه في طريقه للزوال. إنهاؤه بحاجة لجهد نفسيّ ذاتيّ، وليس مجرد انتظار مرور زمن على الفقد… بل قد تكون المشكلة متعلقة باستمرار الوضع على الرغم من مرور الزمن.